كتب : محمد جمال أبوزيد
تميزت مصر على مر التاريخ بمفردات ثقافية وفنية ومعمارية وتاريخية متنوعة. وتمثل ثقافة النوبة بتراثها وعمارتها وتقاليدها أحد تلك الدعائم، ورافدا مهما من روافد حضارة امتدت عبر آلاف السنين، حيث يتميز تراثها بالعراقة والثراء والتنوع، ويتسم ضمن التعدد الثقافى لنسيج مصر المتناغم بخصوصية فريدة.
ويعد النوبيون أكثر أهل مصر حفظا للتراث، فرغم ابتعادهم عن أراضيهم وقراهم القديمة بعد بناء السد العالي، تضحية من أجل الوطن، تاركين وراءهم كل ما يملكون إلا أنهم حملوا معهم ثقافتهم ولغتهم وتقاليدهم إلى أماكنهم الجديدة سواء فى قرى نصر النوبة بكوم أمبو أو غيرها يبذلون كل ما فى وسعهم للحفاظ على ثقافتهم.
هذا السعى والتمسك بالموروث الثقافى تجسده أغنية شهيرة للمطرب النوبى الراحل خضر العطار يقول مطلعها
فخور أنا فخور أنا بحضارتي.. وعايش أنا بهيبتي.. يا تاريخ احكى ليهم أمجادنا.. أمجادنا المدونة فى قلوبنا
وهنا نستلهم قبسا من فيض التراث منها عمارة البيت النوبي. فالجمال الذى كان يميز النوبة لم يقتصر فقط على المعابد الفرعونية التى كانت منتشرة على ضفتى النهر بالنوبة القديمة، ولكن أيضا فى القرى المتراصة على ضفتيه، بما يعكس شخصية الإنسان النوبى المرتبط ارتباطا وثيقا بالنيل.
ويقول الأديب والروائى النوبى حسن نور: كان البيت النوبى يبنى عادة على مساحة من الأرض لا تقل عن خمسمائة متر، ويحرصون على أن يكون بابه الرئيسى وواجهاته تطل على النيل، وبالتالى فإنك لا تجد بيننا فى النوبة القديمة يعطى ظهره للنيل ولجهاته الطبيعية التى كانت بهذه البلاد، بعد أن أغرقت مياه خزان أسوان الأراضى الزراعية والأشجار والنخيل حيث استطاعوا أن يتغلبوا على جهاته الطبيعية بزخرفة واجهات بيوتهم وأن يرسموا أشكالا مستوحاة من الطبيعة عليها مثل الأشجار والنخيل والمراكب والأسماك والطيور وأشكال مختلفة من المصاغ النوبى مثل الهلال والأقراص.
ويضيف : إن البيت النوبى يتكون من عدد من الغرف لا تقل عن 4 غرف وحوش سماوى يزرع وسطه شجرة ليمون أو نخلة توضع تحتها المزيرة، وعلى شمال الداخل من الباب الكبير (الرئيسي) توجد المندرة وهى عبارة عن صالة كبيرة مستطيلة لها 4 فتحات هلالية تطل على الحوش، وعادة ما تكون مهجعا لسكان البيت خاصة وقت القيالة حيث يكون الجو فيه أكثر حنانا لارتفاع سقفه، وعلى اليمين الداخل من الباب الكبير توجد المضيفة لاستقبال الضيوف وهى بمثابة حجرة الصالون، ويخصص الباب الكبير المطل على النيل لدخول الرجال أما الصبية والحريم فيخصص لهم الباب الخلفي.
ويوضح أن النوبيين حرصوا على بناء حظائر أغنامهم وراء الدور، وكانت المضيفة العامة لكل نجع تبنى بجوار جامع النجع ويشترك فى بنائها كل أهل النجع، كما أنهم يشتركون فى تقديم واجب الضيافة لنزلائها.
ويقول الدكتور زهران محمد جبر، أستاذ النقد والبلاغة بجامعة الأزهر والباحث فى التراث النوبي، إنه لا يمكن دراسة التراث النوبى بمعزل عن الألعاب النوبية القديمة، ذلك لأن الحضارة التى تشكلت على أرض النوبة عبر التاريخ الموغل فى القدم، منذ الفراعين إلى العصور الحديثة، إلى ما قبل تهجير النوبيين فى ستينيات القرن الماضي، كانت تلك الألعاب رافدا مهما من روافد هذه الحضارة ومن منتجاتها التى هى من صنع البيئة والإنسان.
ويضيف د. زهران: هذه البيئة بمكوناتها المختلفة، التاريخية والجغرافية والبشرية، ألهمت أبناءها ألعابا تحمل سمات الواقع بشرا وحجرا وتمثل فى ذات الوقت قيما ثقافية بألعاب تصاحب بعضها لوازم معينة أو صيحات خاصة أو أغان قصيرة وكلها ذات دلالات خاصة ومنها: «كوجاد» وهى عبارة عن السباحة فى النيل بطرق متعددة. «جيركراد» .. وهى سباق بالمراكب، أو سباق للجرى بعربات من صنع الأيدي، «هندكية» .. وهى التحجيل والتصارع بقدم واحدة على مراحل متعددة وهى لعبة متوارثة من الفراعنة وقد وجدت نقوشها على جدران المعابد، «آلاس كديه» .. وهى لعبة موسمية مصاحبة لسبوع الطفل أو لسبوع العروسة إذا كان مصادفا ليوم عاشوراء، «إلمور» .. وهى لعبة مصارعة شبابية .
«الطاب» .. لعبة تصاحبها دوما الأهازيج والأغانى التى يشدو بها مشجعو الفريقين المتباريين حيث كانت تقام قديما بين فريقين كل منهما إما يمثل قبيلة أو نجعا أو قرية وهى تعتمد على شرائح من جريد النخيل.
وكما أن للنوبة تميزا فى بيئتها فقد كان لها عبر التاريخ دور محوري. فيقول عبدالرحمن عوض المؤرخ والباحث النوبى إن النوبة الواقعة فى أقصى جنوب الوادى كانت منذ القدم بوابة مصر نحو إفريقيا وباب إفريقيا تجاه مصر،عرقا ولغة وجغرافيا وتاريخا.
ويشير عبدالرحمن عوض إلى أن المتأمل لتمثال الملك مينا موحد القطرين الشمالى والجنوبى يدرك بلا عناء ملامحه السمراء المحسنة باختلاط آسيوى فيه، وأن من بين 314 ملكا مصريا قديما هناك أكثر من 18 ملكا مصريا أمهاتهم نوبيات، منهم تحتمس الثانى والثالث واخناتون وتوت عنخ آمون والملكة تى والملكة نفرتارى وغيرهم، ومن بين الأسر التى حكمت مصر هناك أسرتان كبيرتان نوبيتان وهما الأسرة الكوشية الآتية من دنقلة والأسرة المرورية الآتية من الجندل الرابع وإقليم سهل البطانة الآن بالجزيرة بين النيل والبحر الأحمر.
ويضيف أن بالعهد القبطى فى مصر كانت الجيوش المروية والكوشية هى حامية الكنيسة القبطية من أى اعتداء وجميع ملوك النوبة المسيحية كانوا من الرهبان والقساوسة إلا فيما ندر، وأن المذهب اليعقوبى كان السائد عند النوبيين وهو من مذهب الكنيسة القبطية.
وحينما دخل الإسلام مصر اتحدت الممالك النوبية.
ويقول عبدالرحمن عوض إن النوبة قدمت عبر التاريخ كوكبة من الفقهاء والمحدثين فعلى سبيل المثال لا الحصر يزيد بن أبى حبيب أول مفت لمصر ولاه الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز أمر الفتوى مع آخرين بمصر.
ونصيب بن رياح وكان أول شاعر نوبى للبلاط الأموى الذى مدح الوالى الأموى عبدالعزيز بن مروان بقصيدة قال فيها :
فبشر أهل مصر فقد آتاهم
مع النيل الذى فى مصر نيل
يقول فيحسن القول ابن ليلى
ويفعل فوق أحسن ما يقول
ويعد ذو النون المصرى (ثوبان بن إبراهيم) وهو من مشايخ وأقطاب الصوفية المشهورين ولد فى أخميم بمصر وتوفى فى الجيزة وقد روى الحديث عن مالك بن أنس والليثين سعد وعبدالله بن لهيعه.
وكان الخليفة المستنصر بالله من أم نوبية تزوجها الخليفة الظاهر مما رفع مكانة النوبيين لدى الظاهر وابنه المستنصر بالله فقلدهم مكانة مرموقة داخل إدارة القصور والجيش.
ويوضح فريد فرح الباحث النوبى فى الدراسات التاريخية والسياحية أن النوبة عبر تاريخها ذخرت بشخصيات منها: لقمان الحكيم الذى سميت سورة باسمه فى القرآن الكريم «ولقد أتينا لقمان الحكمة» سورة لقمان (12) وكان من أرض النوبة، وهو ما أشارت إليه كثير من كتابات السابقين واللاحقين أنه كان نوبيا من أهل آيلة.
وأشار فى مؤلفه «النجوم الزاهرة فى سماء النوبة الباهرة» إلى أن النوبيين كان لهم دور بارز فى الحياة الاجتماعية، فقد انتشروا أفرادا وجماعات وأسرا داخل المجتمع المصرى وكانت لهم مساكن خاصة ومستقلة بهم بعيدا عن مساكنهم فى بلاد النوبة، وقد بدأت فى الظهور بشكل بارز ولافت للنظر، وكانت لهم قطائع عرفت باسمائهم، وظهرت الحارات النوبية فى العهد الفاطمى بسبب كثرة أعدادهم .. وقال عنهم المقريزى فى خططه كان لهم بديار مصر وفى كل قرية ومحلة وصنيعة مكان مفرد لا يدخله غيرهم احتراما لهم وكانت حارة المنصورية أشهر الحارات النوبية فى ذلك الوقت.
المصدر : الاهرام