بقلم الأديب سيد جمعة
قـراءة في كتاب “النوبة الغريقة .. حياة الأمان المطلق” للمؤرخ النوبي/ يحيي صابر
( هذه السطور لا ترقي إلي شعوري وإهتمامي بهذا الكتاب الذي بين يدي من شهور إهداؤه إليّ من الكاتب نفسه في زيارة شخصية له )
إختار – مؤرخنا – ولأن ماهو بصدده ليس قصة، إختار لكتابه الرائع والمختلف والمميز ” النوبة الغريقة ” ، إختار عنوانا فرعيا ” حياة الأمان المطلق ” وقدمه بكلمات علي ظهر الكتاب قائلا “
” سيرة ذاتية الهدف منها توثيق بعض العادات والتقاليد النوبية العريقة ، وجميع أحداث الرواية عاصرت بعضها وسمعت عن بعضها من ثقات ” . ( هي سيرة ذاتية لذاك الإنسان النوبي وليست لشخصه )
هذه الكلمات توضح لنا قبل ان نمضي معه الأسلوب المناسب ألا هو إسلوب الباحث فكانت مراجعه كما يقول ، انه عاش بعضها بنفسه والبعض الأخروهو الجزء الضارب إلي سنوات بدايات الغرق والتهجير لأهالي مجتمع نوبي متكامل كان مغلقا وغير معروفٌ عنه الكثير أو يكاد أن يكون مجهولا لدي كثير من المصريين انفسهم ذلك ان بعض النويين ابناء اليوم فضلا عن غالبية المصريين كادو ان ينسوا أن هناك بقعة غريقة من ارض مصر ،
والتي غمرتها مياه النيل ، وغيبت ما تحتها من ارض عاش عليها اجداد مصريين / نوبيين ، وقصاري ما هو معروف هو الهجرة الأخير ، الهجرة لبناء السد العالي في بدايات ستينيات القرن الماضي ، وكادت تنسي هجرة بناء خزان اسوان التي لم يتناولها احد من قبل ، فكان مؤرخنا / يحيي صابر هو واحد ممن عَنيّ له ان يُذكر المصريين والنوبيين بجزء من ارضهم غريق ، وتم تهجير اهله بصورة ربما لم تحدث من قبل إن اغرق هذه الأرض حمل معه و لدي النوبيين مرارات وعذابات ، وذكريات أليمة ، بعض هذه العذبات للأن يسكن قلوب ومحاجر أعين من نزح اباؤهم واجدادهم المعاصرين لهذه الهجرة الأليمة ،
وما يضاعف من حدة آلام هؤلاء الأباء الذين علي قيد الحياة وابنائهم هو عدم الإكتراث او التقليل من شأن ما حدث للنوبيين الأجداد الذين دفنت اقصد طمست مقابرهم ومنازلهم واشجارهم ، وأرض وطئوها وزرعوها ، واقاموا فيها ، بل و عَمروُها ، في الوقت الذي لم يعبأ بهم احداً ، ولا إهتم بهم عقودا اشرفت علي قرن زماني بالكامل ، فلا خدمات ، ولا بنية تحتية اقلها ماء الشرب ، والعلاج ناهيك عن الكهرباء والتعليم … الخ مجتمع جاء إلي الحياة ، وذهب عنها مغمورا ، وغير معروفا ، والأنكي لا إهتمام بإبناء هؤلاء النازحين من النوبيين الحاليين متمثلا في عرفان وتقدير ، مشفوعا – عمليا – بتحقيق بعض من أمال الذين ذهبوا ،وبعض من امال ابائهم الذين في معاناة حتي اليوم من جراء مواصلة التجاهل ، وعدم الوفاء والتقدير لهجرة أبناء جزء عزيز من ارض مصر ، ومجتمع مصري عريق ، يُعرف في كل انحاء العالم قديمه وحديثه بسم النوبة ” ارضا ، ومجتمعا ” فما من دراسة عن الحضارات او عن الأنهار إلا وذكرت النوبة . فهل من مذكر؟
هذا الكتاب ومؤلفه اضافا إلينا ما يذكرنا ولا ينسينا اجدادنا وارضنا النوبية الغريق ، حيث ” الأمان المطلق ” .
الكتاب يمضي من خلال سيرة ذاتية للمؤلف متتبعا حياة أجداده و أعمامه واخواله ، وعماته ، وخالاته وابنائهم وبناتهم ، ورفاق صباه منهم ومنهنّ راصدا وبدقة شديدة مظاهر الحياة النوبية العملية ليس علي سبيل الحصر ، في البيع والشراء اقصد نظام المقايضة حيث لم تكن العملة وسيلة بيعية او شرائية مطلقا ، وايضا راصدا العلاقات الإجتماعية في المناسبات مثل الزواج ، والإنفصال فلم يكن الطلاق معروفا ولا دافع إليه مهما إحتدت الأمور ، – وما كانت ، وكيف تحتد والجميع اهل واقارب وابناء عمومة او خئولة ! وكذلك يرصد ايام المرض والأوبئة ومصائب الموت أوالفراق للسفر والنزوح للشمال للعمل وتوسعة باب الرزق الخ ،
وكيف يكون التضامن والتكافل في اكمل واجمل صوره بين اهل القرية إذا إعتري شخصا منها مصيبة من المصائب المقدرة من نقص في الأموال أو الأنفس أو بهيمة الأنعام , مرورا بالأعياد والمناسبات الدينية كعيد الفطر وعيد الأضحي المبارك ، وحيث ملاهي والملاهي هنا لا تعنيّ الملاهي المعروفة الأن لكن ساحات اللهو و دروب اللعب المتاحة في افنية واحواش البيوت ومداخلها ومخارجها مع العاب الأطفال البسيطة من جري وإختفاء والعاب البنات ايضا البسيطة والمعروفة ،
وإن إختفت اليوم لكن الكاتب يرصدها ويعرفنا به ويرصد إحتفاء الكبار من الرجال والنساء بهذه المناسبات في صور الزيارات المتبادلة بين الأهل أو التجمعات التي يتجمع فيها اهل القرية علي المصاطب التي امام الدورفي ديوانتها أو مع كبراء ومشايخ القرية المعروفين لأهلها ، والولائم المصاحبة وصور التجمعات العائلية ، وما يصاحبها من تكافل مجتمعي حيث لا غنيّ ولا فقير ولا يتيم ولا أرمل أو عاجز يشعر بشئ من النقص أو الإحتياج ، ايضا يحدثنا عن إسلوب فض الخلافات والإختلافات البشرية العادية التي يتولاها حكماء وشيوخ وكبار القرية في التحكيم حتي يتم إعادة روح التسامح بين الفرقاء بقبول وإستقبال حسنُ ،
ولا ينسي ان يحدثنا في تفصيل جميل عن الزواج من لحظة ترشيح العروس للعريس وفي العادة هما إما أبناء أو بنات أعمام أو خالات واخذ الموافقة من اسرتها ، وما يتبع ذلك من خطوات حتي تكتمل الزيجة بأفراح وزينات ، بعد تجهيزات بيت الزوجية في بساطة ويسر وإسلوب وخطوات معروفة متفق عليها . يرصد المؤرخ كثير من العادات والتقاليد النوبية بوقائعها التفصليلية الدقيقة التي يعرفها وعاش وشارك في بعضها عندما كَبُر
يحدثنا عن الأكلات والمشروبات النوبية التي لا زالت معروفة ومتداولة في الأسر النوبية حتي بعد التهجير وتغاير البيئة والسكن في العمارات والأبراج في مدن التهجير الجديدة كالقاهرة والأسكندرية والإسماعيلية وهي اكثر المدن التي سكنها النوبيون بعد التهجير الأخير .
ويتتبع المؤرخ كفاح النوبيين النازحين إلي الشمال الذين سكنوا واتخذوا من القاهرة والإسكندرية دار إقامة مؤقتة حتي صارت دائمة ، يتتبع رحلة كفاحهم في إيجاد المسكن وتوفير فرص العمل لأقرانهم الذين يجيئون بعدهم تشدهم ، وتزعق عليهم النداهة لتوسعة فرص الرزق علي الأهل في قراهم التي اضطروا بعد هجرتهم الأخيرة إلي ارض جرداء بلا ماء او خدمات او نخيل وبيوت إعتادوا سكناها والتعايش معها بوسائل بدائية كانت تغنيهم عن محنة وعذابات السفر ، لكن الأبناء النازحون بخلاف توسعة الرزق ،
وجدوا في التعليم بهذه المدن وهو مكان ينقصهم وجدوا فيه فرصة لتغيير نمط الحياة المعتادة في قراهم فأقبلوا علي التعليم والأعمال الغير معروفة لهم في قراهم ووجدوا أيضا عادات وتقاليد غير مألوفة لهم إضطروا إلي التسلح بها في هذه الغربة والمجتمعات الجديدة التي يلزمها تسلح وعتاد حتي يحققوا بعضا من النجاحات وقدراتهم وطاقاتهم الكامنة فحقق الكثير منهم العديد من النجاحات و التفوق في كل المجالات ، بل إنطلق الشباب النوبي لخلق تجمعات نوبية جديدة متميزة في العالم العربي ، بل وصلت هذه التجمعات لأوروبا وامريكا لتؤكد أن النوبي إبن وسليل حضارة نوبية كادت تغرقها – وإن كانت أَغرقت جزءاً منها – ايادي بشرية أَفلحت في أنها ” قلعت ” ولم تفلح للأن ، في ان تزرع أو تعيد ما قلعته !.
مؤرخنا النوبي وكتابه ” النوبة الغريقة … حياة الأمان المطلق ” يردد صيحة أجداده من الأجداث ومن تحت الماء ، أن النوبة الغريقة كانت بلد وحياة الأمان المطلق في مصر ، وعلي الأحفاد الحاليين المصريين والنوبيين أن لا ينسوا أن جزءا من ارضهم تحت ماء النيل مغمورا .
اخيرا ادعو – كما قلت ودعوت المورخ نفسه – ان تقتني كل جمعية نوبية نسخة من هذا الكتاب في مكتبتها، وكذلك كل اسرة نوبية عليها ايضا ان تقتني نسخة في منزلها حتي لا ننسي النوبة الغريقة والأجداد .
_______________________
ســيــد جــمــعــه : أديب وشاعر
المصدر : شموس نيوز