النوبة: حكايات لها تاريخ
كتب_ يوسف القعيد
كيف عبرت الرواية المصرية عن النوبة؟ كيف جسدت آمال وأحلام وأنين وأفراح أهالي النوبة؟ قضية شغلتني كثيرا جدا. لكن قبل الكتابة عنها لا بد من إيضاح مهم. فأنا لا أكتب عن أهالي النوبة باعتبارهم أقلية من الأقليات في مصر، فالغرب يراهن على هذا.
ويريد أن يتوصل من خلاله إلى أمور بالغة الخطورة. لا أجرؤ حتى على كتابتها. لكنى أكتب عن أهالي النوبة باعتبارهم من أهل مصر يعيشون وسطنا، فحتى حياتهم القديمة في أرض النوبة اختلفت الآن، ومن خلال الهجرة أصبحوا منتشرين في كل مكان من بر مصر. لذا لزم التوضيح.
أما عن صورة النوبة في الأدب الروائي فيمكن البدء من رواية: الشمندورة لمحمد خليل قاسم. التي تعتبر نصا مؤسسا للكتابة الأدبية عن النوبة. والشمندورة نص نوبي تنتهى أحداثها وما تبقى من النوبة يغرق تحت المياه الزاحفة بعد بناء السد العالي. وما زلت أذكر أن شواشي الأشجار خاصة النخيل منها هي آخر ما رأيته يتوه تحت مياه نتجت عن السد العالي.
من باب التأريخ فقط، نقول إن محمد خليل قاسم ولد في 15 يوليو سنة 1922، أي بعد ثورة 1919 بثلاث سنوات. وكتب الشمندورة سنة 1964 ونشرها سنة 1968، وهي أول رواية نوبية بالمفهوم الحديث للأدب، وأنا أعتذر عن كلمة نوبية، وأقول إنها أول رواية مصرية مكتوبة عن النوبية. وقد توفى محمد خليل قاسم سنة 1968. وهي نفس السنة التي نشرت فيها رواية: الشمندورة. كانت سنة ميلاد أهم نص أدبي له هي سنة رحيله عن عالمنا. وقد رحل في سن مبكر، حيث توفي في الرابعة والخمسين من عمره.
بعد هذه الرواية تنوع عطاء أدباء النوبة من حيث كتابتهم ومطالبهم. ولعل الروائي إدريس علي أهمهم جميعا في تناوله للمشكلة النوبية. وإدريس علي لمن لا يعلم مولود في 5 أكتوبر سنة 1940، ومتوفى في 30 نوفمبر سنة 2010، عن سبعين عاما، وقد كتب وأصدر في حياته ست روايات وثلاث مجموعات قصصية، ونشر أول قصصه القصيرة سنة 1969 في مجلة صباح الخير، وتعد دنقلة أهم نص روائي له.
فهو يصدر روايته: دنقلة بعبارة وردت في تاريخ المقريزي عن الفترة التي حكم فيها النوبيين مصر. وينظر لهذه الفترة باعتبارها الفردوس النوبي المفقود. وفى روايته: النوبي. يعود للكلام عن اغتراب النوبي عن النوبة. ويؤكد على حياة أهل النوبة في غربتهم تحت خط الفقر ومعاناتهم لاحتياجات ربما تمثل الحد الأدنى من مطالب الحياة اليومية.
أما بعض الأدباء الذين يفضلون النظر لأهالي النوبة باعتبارهم أقلية. لها ما يميزها من الأقليات. فلا أحب التوقف أمامهم طويلا. لأن مشروعهم قائم على الاستعانة بالغرب وثمة دراسة أخرى قال لي صديقي الدكتور عاصم الدسوقي إنه يعكف على كتابتها حول هذا الموضوع، موضوع الأقليات في مصر، وربما كان أكفأ مني في تناولها تدور حول هذا الموضع.
إن قراءة روايتي إدريس: دنقلة والنوبي، تؤكد أن أهالي النوبة جزء من بنية المجتمع المصري. وليسوا غرباء عنه. وإدريس على نفسه في سلوكه اليومي معنا. وتعامله تجاهنا على مدى فترة حياته. وكان من الأدباء الذين يكثرون من البقاء في المقاهي فترات طويلة. وكان من الذين يحبون الثرثرة عن حياتهم وعن أدبهم، وكان يؤكد دائما وأبدا أنه مصري. ولم يكن يحب أن نقول عنه نوبي أبدا. أصل إلى تاريخ النوبة كما قرأته في كتابين عنه.
بلاد النوبة منطقة تمتد جنوب مصر وشمال السودان، بين الشلال الأول جنوبي أسوان والشلال السادس شمالي الخرطوم، وهناك أيضا جبال النوبة في كردفان. والنوبيون، كما نعرفهم اليوم، أعني الناطقين باللغة النوبية (أو بالأحرى باللغتين النوبيتين الموجودتين في وادي النيل)، يعيشون على أرض هذه البلاد، في منطقتين متمايزتين: النوبة السفلى أو المصرية، والنوبة العليا أو السودانية. والنوبيون شعب غير عربي. يتحدث لغة محلية. ويعيش على أرض تشكل المنطقة الجغرافية المعروفة بالنوبة. والنوبيون مسلمون وللنساء وضع التابع في المجتمع النوبي. ويقوم الرجال والأبناء الذين تعدوا مرحلة البلوغ بمهمة تأديب الأطفال ورعاية النساء. وبرغم ذلك فإن غياب الرجل سمح للمرأة النوبية بحرية أكثر للتحرك والترحيب بالغرباء. أكثر مما هو عليه في المجتمعات الإسلامية الأخرى.
وتسمى المجموعة اللغوية النوبية التي يتحدث بها المحس باللغة المحسية أو الماريس وكلمة ماريس هي الاسم القبطي لمصر العليا. وهي التي استخدمت أيضا في موازاة نوباتيا كاسم للمملكة النوبية الشمالية منذ دخول النوبيين في المسيحية في عام 543 التي كانت عاصمتها آنذاك فيرسا. ولكنها كانت قبل ذلك في بلانة عند الحدود المصرية.
ويذهب المؤلفان إلى أن النوبيين كانوا مسيحيين حوالى 800 عام ومسلمين حوالى نصف تلك السنين تقريبا. ويعتقد أن النوبيين لم يشاركوا أبدا بشكل نشط في المسيحية كما يفعلون الآن في الإسلام. وكانت الكنيسة النوبية فرعا من الكنيسة القبطية المنوفستية في مصر.
على أن التطابق الذي كان سائدا بين منطقة جغرافية تحمل اسم النوبة منذ وقت طويل، وسكان يحملون اسم النوبيين وينطقون باللغة أو اللغات النوبية الحالية، لم يكن موجودا منذ فجر التاريخ، بل إنه لم يتحقق إلا منذ القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، وقبل ذلك كانت المنطقة تسمى النوبة أو «تا-سيتى: كوش للنوبة السودانية»، و«واوات» للنوبة المصرية. وكان السكان نوبيين نسبة إلى اسم المنطقة الجغرافية، غير أنهم لم يكونوا ناطقين بلغة تمثل اللغة أو اللغات النوبية امتدادا لها، بل كانوا يشكلون مجموعات سكانية متباينة إثنيا وقوميا ولغويا.
كان النوبيون يشكلون مجموعة إثنية أو قومية تشمل بصورة خاصة النوبيين النيليين بخلاف النوبيين الجبليين الذين لا تجمعهم بالنوبيين في الوادي وحدة الأرض كما يختلفون عنهم من نواح ثقافية ولغوية ولهجية متعددة.
المصدر : عمان ديلي