صحيفة راصد الإخبارية / السودان / نحن لن ننافس مصر في أمومتها للدنيا، فالسودان باسمه الذي به يُنادى محسوب في الذكران لا في الإناث
لا شك أن كل النخب تتعالى على شعوبها ولكن لنخبة مصر تاريخ خاص في السيطرة والتعالي على الشعب
كان من خطأ بعض المتنفذين في النخبة المصرية وخطل الرأي والتصرف لديهم أنهم حاربوا وصف الحضارة التي تبدو آثارها للعيان وتمتد من شمال الخرطوم إلى جنوب القاهرة بأنها حضارة نوبية
كلمة النخبة كلمة اخترعتها الطبقة التى تتسمى بهذا الاسم. وهى تفترض أن جهة ما اصطفت وانتخبت خير ما في الشعب فأخرجت صفوته ثم منحتها الظهور والسيطرة فوق وعلى أعناق الشعوب
مثقفو مصر كانوا يتحدثون بلغة أخرى ليست هي الوحدة أو الاتحاد بل لغة الاحتفاظ بالسودان بصفته من الأملاك الخديوية بحجة فتح حاكم مصر محمد علي باشا الألباني للسودان
غضب بعض أصحاب الأقلام وأصحاب المقاعد الوثيرة في الإستديوهات الإعلامية، من حديث بعض السودانيين عن عراقة حضارة السودان، وما كان لهم أن يغضبوا فإن سابقة السودان إن صح قول القائلين بذلك لا تقدح فى أمومة مصر للدنيا
==========
كتبت منذ حين مضى بضعة مقالات حول العلاقات السودانية المصرية، ويبدو أن الحديث المستعاد قد يصادف وقتاً مناسباً لأكثر من مرة، ولكن التوتر الذي يتصاعد في العلاقات الشعبية بخاصة والعلاقات الرسمية إلى حدٍ ما يستوجب حديثاً صريحاً يفتح العرق (كما يقول المصريون) ويسيح دمه. فإنه ما من جرح يرم على فسادٍ إلا وازداد فتقُه وألمُه، فلابد من فتح الجراح وتنظيفها وتعقيمها بالكلام الصريح الذي يُسكت عنه في غالب الأحوال وما يُسكت عنه هو سبب ما يُشتكى منه أو هو أكبر الأسباب.
مسكوكة العلاقات الأزلية
ظلت عبارة العلاقات الأزلية تتكرر في أوساط المثقفين والدبلوماسيين وأهل السياسة لتوصيف العلاقة بين البلدين. وهي عبارة فوق ما يكتنفها من معنى خاطئ يفترض وجوداً أزلياً للبلدين ليفترض من بعد كون العلاقات بينهما أزلية، فهى تجيء أيضاً من باب إلقاء الحديث على عواهنه، مما يحمل إشارة على حالة خطابية عاطفية لا نظر علمي ولا تبصر واقعي لحقائق التاريخ والواقع المشهود. ولكن حتى هذا المنحى العاطفي لا يخلو من مبالغة في التعبير. فالعلاقات التاريخية لم تكن دائماً في أفضل أحوالها و هي في اللحظة الراهنة تشكو من شوائب كثيرة يتوجب علينا الاعتراف بها والتعامل معها برشد المدركين أن العلاقات لا تنشأ وتتواصل بين الأشخاص والجماعات والهيئات والدول خالصة من كل ما يشوب ويعكر . وقديماً قال الحكيم النابغة الذيباني.
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمُه
على شعثٍ أيُ الرجالِ المهذبُ
فليس هنالك علاقة حقيقية بين الأفراد والشعوب ولو كانوا أولى قربى إلا وبها من الشعث المشار إليه كثير أو قليل . ولكنه النقص الذي قد يدعو للاجتهاد في توثيق العرى وتمتين الأواصر إن صدقت الرغبة من الطرفين. ويدرك الباحثون في الإثنولوجيا أنه ما من قوم أو جماعة إلا ويحمل بعضهم لبعضهم الآخر توجسات وتحيزات، ما أكثر أمثالها بين شعبي وادي النيل . وربما تورث الألوان واختلاف السحنات نوعاً من التحامل والتمييز اللوني والعنصري. ولكن الشعوب الراشدة هي تلك تتجاوز التحيزات والتوجسات الى التعارف الحق والتعايش الإنساني النبيل. ومن الشوائب التي تشوب العلاقات المصرية السودانية في أبعادها الاجتماعية والنفسية والثقافية توجسات وتحيزات قد يرسخها التواصل المباشر فيورث نفوراً وتباعداً . أو قد يبددها التواصل المباشر والتعارف المفضي إلى معرفة أفضل لما في الشعبين من خلائق وشمائل تنبثق من تجربة وجودية متشابهة، ومن ثقافة إسلامية عربية هي المشرب الذي يستقي منه أهل الوادي شمالاً وجنوباً، كما يستقون من نهر النيل، وكما يتفاعلون مع محيط ثقافي وسياسي أفريقي يتصل عبر النيل، وعبر امتداد القارة من ساحلها الشمالي الى ساحلها الجنوبي. وقد أثبتت الدراسات والتجارب العلمية قوة اتصال الشعوب العربية ببعضها البعض ومتانة أواصرها مع أفريقيا جنوب الصحراء . ولكن المسافة بين السودان ومصر أقصر، وكان يجب أن تكون المسافة النفسية والاجتماعية بينهما أقصر وأكثر خصوصية بأكثر مما نشهد ونعلم. كذلك فإن الاتصال السكاني والحضاري عبر الحقب وتكامل الموارد الطبيعية والبشرية هو الذي جعل شعار اتحاد أهل الوادي أمراً أقرب إلى البداهة منه إلى الفكرة السياسية. ولئن ظلت طبيعة العلاقة مع السودان واحدة من أهم أجندة الأحزاب والقوى السياسية في مصر فإن السياسة في السودان نشأت على فكرة وحدة وادي النيل تكون عاجلاً أم آجلاً. فدعاة الاستقلال لم يكونوا مناهضين لفكرة الوحدة بل كانت دعواهم أن الأولوية تكون للاستقلال ثم يقرر الشعب السوداني من بعد التكامل أو الوحدة مع مصر. بينما كان دعاة الاتحاد يتحدثون عن وحدة تكون بإعلان الانضمام إلى مصر. وأما مثقفو مصر فكانوا يتحدثون بلغة أخرى ليست هي الوحدة أو الاتحاد بل لغة الاحتفاظ بالسودان بصفته من الأملاك الخديوية بحجة فتح حاكم مصر محمد علي باشا الألباني للسودان، ثم كان ما كان مما يعلمه القاصي والداني وما يكون تفصيله من الإسهاب الزائد عن الحاجة.
النخبة المصرية كيف أفسدت العلائق
كلمة النخبة كلمة اخترعتها الطبقة التي تتسمى بهذا الاسم. وهي تفترض أن جهة ما (ليست هذه الجهة ربنا خالق الخلق تعالى قدره) اصطفت وأنتخبت خير ما في الشعب فأخرجت صفوته ثم منحتها الظهور والسيطرة فوق وعلى أعناق الشعوب. وليس ثمة ادعاء عرفته البشرية لوصف أحوالها أكذب من هذا الادعاء، فقد ادعت النخب دائماً حقاً إلهياً فى الحكمة والحكم . وأما في مصر على وجه الخصوص فقد بلغ الأمر إلى إدعاء الألوهية في يوم من الأيام .ألم يقل كبيرالقوم لملأه الأعلى ما عرفت لكم من إله غيري؟؟ ولئن كان الفرعون في صورته وخطابه التاريخي قد أصبح شأناً من الماضي فإن جوهر الأمر لم يتغير كثيراً، فلا يزال صاحب الكرسي هو مالك الحقيقة والحق المطلق، ولا يزال الملأ الأعلى هو ذات الملأ الأعلى ، ولو تغيرت الشخوص والأسماء والألقاب. ولا شك أن كل النخب تتعالى على شعوبها ولكن لنخبة مصر تاريخ خاص في السيطرة والتعالي على الشعب. مكنها من ذلك خصوصية طبيعة الحياة في مصر، التي تعتمد مدنها وأريافها على الري من النيل، ولم يكذب من قال إن مصر هبة النيل، فقد شكلت سبل كسب العيش التي تعود كلها إلى النيل علاقات الإنتاج، ومن ثم كل علاقات الحياة في مصر، في صورة مكنت أهل السلطان من بسط سيطرة قابضة على سواد السكان الأعظم، إن لم نقل جميعهم. فمن يسيطر على قنوات الري يسيطرعلى الحياة في مصر. لذلك كان الري من النيل هو مفتاح الحياة ومفتاح باب السلطان في مصر. والري من النيل ضرورة الجمهور الأوسع من الشعب، والناس عبيد الضرورة ، فالضرورة ليس منها من فكاك. لذلك فإن سيطرة الملأ الأعلى الذى يسمي نفسه نخبة في مصر ما له في الدنيا من مثيل ولا شبيه. وقديماً قال ابن خلدون بعد أن شرح نظريته فى العصبية وأهميتها في قيام الدولة والاحتفاظ بسلطانها إن الحال فى مصر غير ذلك. ذلكم أن حاجة الناس لما تضع الدولة يدها عليه هو سبب طاعتهم للدولة، وليس الأمر بعائد لقوة الدولة الذاتية. ونحن إذ نتحدث عن الدولة لا نتحدث عن الحكام أو حتى عن ملائهم الأعلى من وزراء كأمثال هامان وقارون وإنما نتحدث عن طبقة أوسع وصفها المنظر الماركسي الإيطالي غرامشي وسماها الطبقة المسيطرة. فطبيعة الدولة لدى غرامشي أنها قمعية . لأنها تتكون من أجهزة تغلب عليها ثقافة السيطرة والقمع، مثل الجيش والبوليس والقضاء، وأحياناً تنشأ مليشيات تحت كنف هؤلاء تكون أكثر قمعاً. ثم إن هناك الحكومة والبرلمان إن وجد فاعلاً أو تابعاً، والبيروقراطية ثم مؤسسات للتنشئة على الخضوع كما يصف غرامشي، مثل المدرسة والدور المتخذة للعبادة والأحزاب السياسية إن وجدت فاعلة أو تابعة. بيد أن غرامشي يرى أن الدور الأخطر في تكريس سيطرة أهل السيطرة إنما يضطلع به من يتسمون بالمثقفين ويحبون أن يُعتبروا أنهم هم النخبة الفكرية والثقافية والمدنية في الدولة. وغرامشي يرى أن كل طبقة تنتج نخبتها المثقفة. وكل وضع سيطرة يستظهر بمفكريه ومثقفيه وفنانيه وأهل المسرح والفنون والإعلام من مظاهريه وأهل الموالاة له . فالإقطاع قبل نشوء دولة البرجوازية الصغيرة كان له منظروه ومثقفوه وغالبهم من ذوي المسوح الكنسية، ولكن الدولة الرأسمالية صنعت نخبتها الخاصة فكانت أنكى وأضل. والنخبة المثقفة عند غرامشي أشبه بالأسمنت الذي يشد بناء السيطرة الرأسمالية بعضه إلى البعض الآخر، وهو محق في هذه الجزئية على الأقل.
وعوداً على بدء الكلام عن النخبة المصرية فإنها ظلت تصلح مثالاً لما أعطاه غرامشي للنخب الثقافية من أوصاف وأدوار. فهي ظلت تنظر من برجها العالي للعامة إذ تسميهم الدهماء. وهؤلاء الموسومون بالدهماء حيناً وبالغوغاء حيناً آخر هم سواد الشعب الأكبر. ولا يهز ضمير أهل البرج العالي قط ما يرون الشعب يعانيه من مسغبة وضنك عيش، ألجأ الملايين منهم إلى منافسة الأموات على المقابر. فالأمر المهم لدى أفراد النخبة كان دائماً هو الترقي في الوظيفة العامة أو الظهور والسطوع في المشهد العام . ولكي لا نخص النخبة المصرية ظالمين بهذا الوصف فهذا هو واقع حال النخب في جميع البلاد، لا نستثني منه بلادنا، ولكن نخبة مصر كانت هي الأنموذج المحتذى في ذلك. ثم إن العوام لدى النخبة هم أنواع وأصناف، فليس عوام المدن مثل عوام الأرياف، وليس عوام أرياف مصر السفلى مثل عوام مصر العليا التي تسمى الصعيد، وقد تحولت مفردة صعيدي إلى مفردة أقرب للتحقير منها إلى الوصف أو نسبة المرء إلى موطنه. وأما صعيد الصعيد الذي هو السودان فهو أدنى من ذلك وأقل. وربما يرانا بعض الناس قد بالغنا في الشطط وفي التحامل على نخبة مصر ولكننا آلينا على أنفسنا أن نتحدث بالمسكوت عنه عند غالب الناس في بلادنا من انطباعات تجاه النخبة المصرية، وبخاصة في تعاطيها مع شأن السودان وأهل السودان. وهبْ أننا بالغنا في الشطط فإخراج الهواء غير النقي خير من كتمانه، والقول الذي نقول معروض لمن يفند دعواه ويميز حقه من باطله، فلن يتبقى بعد ذهاب زبد كل دعوى إلا الحق الذي به ينتفع الناس.
مصر أم الدنيا فمن السودان ؟
نحن لن ننافس مصر في أمومتها للدنيا، فالسودان بإسمه الذي به يُنادى محسوب في الذكران لا في الإناث. ولكننا قد نسأل عن موقع السودان من هذه الأم ولديها. وقد غضب فئام ليسوا بالقليل من أصحاب الأقلام وأصحاب المقاعد الوثيرة في الأستديوهات الإعلامية، غضبوا من حديث بعض السودانيين عن عراقة حضارة السودان، وأن الحضارة فيه حسب أقوال علماء (ليسوا بالقليلى العدد ولا الشأن) سبقت الحضارة في مصر. وهذا القول بلا ريب لابد له أن يثير غضباً عارماً لدى أصحاب مقولة (مصر أم الدنيا). وما كان لهم أن يغضبوا فإن سابقة السودان إن صح قول القائلين بذلك لا تقدح في أمومة مصر للدنيا، فإن سابقة آدم على حواء في الخلق لم تقدح في أمومتها للبشرية. وقد يعلم الألمعي أن ما تقدم من قول يمكن أن يؤخذ من باب المزاح، ولكن ما يليه من قول ليس مزاحاً. فالحديث عن مصر والسودان بمعطى الجغرافيا السياسية المعاصرة لا يعدو كونه خطلاً عاطفياً. فإن حدود ما يعرف بالسودان قد امتد سلطانها في قرون عديدة حتى بلغ إلى الشام، وحدود ما يُعرف بمصر اليوم قد تمددت في يوم من الأيام حتى بلغت إلى عدو ليس (مصوع ) في أرتيريا. فالجغرافيا السياسية لا تحدد العلاقات بين الشعوب بل إن الشعوب هي التي ترسم الجغرافيا السياسية على مدى الأزمان. وما يحب أبناء النيل في مصر تسميته بحضارة فرعونية نسبة إلى الملك الفرعون، يحب أبناء النيل في السودان تسميته بحضارة نوبية نسبة إلى الشعب النوبي وكلٌ يسمي ما يحب بالاسم الذي يحب. وقد كان من خطأ بعض المتنفذين في النخبة المصرية وخطل الرأي والتصرف لديهم أنهم حاربوا وصف الحضارة التي تبدو أثارها فترى للعيان وتمتد من شمال الخرطوم إلى جنوب القاهرة بأنها حضارة نوبية، ذلكم رغم العلاقة التي لا ينكرها إلا مكابر بين لغة ذلكم العهد المسماة هيروغلوفية (من منحها هذا الاسم؟) وبين اللهجات النوبية التي يتحدث بها الناس حتى يومنا هذا، ورغم الشبه الذي لا تعمى عنه إلا عينٌ عاشية بين سُحنات المومياوات القديمة وسُحنات أهلنا النوبيين في شمال السودان وجنوب مصر، أو إن شئت فقل أهل مصر العليا وأهل السافل من أرض السودان. وقد بلغ التشدد ببعض هؤلاء الرسميين في مصر أن هددوا الحكومة الفرنسية بإخراج البعثات الفرنسية من مصر إن هي مضت في إنجاز معرض ممالك على النيل في باريس، والذي نظمه في تسعينيات القرن المنصرم معهد العالم العربي في باريس (كنت إبان ذلك مسؤولاً عن شأن الثقافة في السودان)، وقد ظل سفير القاهرة يبذل غاية وسعه لمنع حدوث ذلك الحدث حتى اللحظة الأخيرة، ونحن إذ نذكر ذلك نسأل الرحمة للراحل إدغاربيزاني مدير معهد العالم العربي الفرنسي الجنسية الذي صمم على إمضاء الأمر ولو كره الكارهون، ثم تحرك المعرض إلى كافة أنحاء أوربا ومصر الرسمية حانقة وغاضبة. ثم تردد حديث في اليونسكو من بعد نجاح المعرض لإقامة متحف دائم للحضارة النوبية، فعارضته مصر الرسمية فلما لم تجدِ المعارضة فتيلاً أصرت أن يقام المتحف في مصر، وليس في السودان المكان المقترح الأول لإقامة المتحف . ولقد شهدت بنفسي كيف أضُطرت بعض البعثات الأوربية والبعثة اليابانية الآثارية للخروج من السودان بعد التهديد المصري بطرد البعثات الآثارية من مصر. وآخر الأمثلة على غضب الرسميين المصريين وأتباعهم من المثقفين هو ما أظهروه من غضب وموجدة من زيارة الفضلى موزة بنت مسند (عقيلة أمير قطر الأب ووالدة الأمير تميم) لمواقع الإهرامات النوبية المروية في السودان ومن الدعم القطري لبعثات الاستكشاف الأثاري في السودان، وقد كان ذلكم الغضب محيراً لمن لم تكن له سابقة معرفة باتجاهات مصر الرسمية وملائها الأعلى والأدنى تجاه إبراز أصول الحضارة النوبية أو أمجادها في السودان .
ونواصل