والداي نوبيان، ولدا في القاهرة بعد أن تم تهجير عائلتيهما خلال بناء المرحلة الثانية من سد أسوان عام ١٩٣٢. نشأت في بيت العائلة حيث كانت تتحدث الخالات والجدات اللغة العربية المكسّرة.
مازلت أتذكر جدتي الكبرى وهي تكافح للتحدث إليّ بالعربية. مازلت أذكرها وهي تطلب منّا أن نعلمها كلمات عربية، حتى تتمكن من التواصل معي ومع أبناء عمومتي. مازلت أذكرها وهي تحكي لي القصص بالنوبية، تلك اللغة التي لم أكن أفهمها على الإطلاق. كم أحببت صوتها الجميل!
لفترة طويلة كانت النوبة بالنسبة لي هي رقصة الأراجيد الملونة، هي وجوه عماتي وأعمامي المبتسمة في اجتماعاتنا العائلية، هي أمي وهي تترجم أغاني الحب النوبية لي ونحن نرقص سويًا في البيت، في وقت راحة لها من التزاماتها المنزلية.
في سنوات مراهقتي، فتح عمي عباس مختار ساكوري عيني على عالم الأدب النوبي. عرفت عن الأرض القديمة والتهجير القسري، لكن أبي كان ناصريًا متشددًا، فاعتاد أن يقول “كان ذلك من أجل الصالح العام”، الصالح العام إذن.
وبعدها لسنوات، عشت في حالة التنويم المغناطيسي القومي: أنا مصرية، أنا مصرية فقط. لم يكن هناك متسع في فهمي لكوني مصرية لإدراك التنوع أو الاختلاف. ورغم أن كل تفصيلة في حياتي كانت تصرخ بانتمائي للمجتمع النوبي، إلا إنني غضضت النظر عن الانخراط في العمل النوبي العام.
كان هذا هو حالي حتى ٢٠١٠، عندما انضممت إلى مركز هشام مبارك القانوني وعملت مع فريق البحث هناك للخروجبتقرير عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أصبحت أفهم بشكل أفضل القضية النوبية وعرفت الكثير عن انتهاكات حقوق ذلك المجتمع.
ثم جاءت ثورة ٢٥ يناير التي كان لها أكبر الأثر على حياتي، إذ دشنت البداية الرسمية لنشاطي النوبي. التقيت بأعضاء اتحاد شباب النوبة الديمقراطي ومن خلالهم اكتشفت المجتمع السياسي النوبي.
ينبغي أن أقول إن بعض افتراضاتي بشأن التسلط الأبوي والتحفظ الموجودين في الدوائر السياسية النوبية، وربما في كل الدوائر السياسية في مصر، قد ثبتت صحتها. أتذكر تعليقات بعض النشطاء النوبيين الشباب بشأن ناشطة نوبية بارزة عن كونها “ليست جيدة بما يكفي لتمثيلنا”. ليس سهلا أن تكون امرأة شابة في مجال السياسة، اضطررت لخوض الكثير من المعارك لنوعي، ولجيلي ولنفسي.
رُشحت من خلال “الدستور يا نوبيين” لتمثيل المجتمع النوبي في لجنة الخمسين المكلفة بتعديل الدستور. وحملة “الدستور يا نوبيين” حملة شبابية قوية تعمل على إعلاء حقوق النوبيين في الدستور. لكن بعد هذا الترشيح، ودون اندهاش، واجهت الكثير من التعليقات الكارهة للنساء حتى أن البعض اقتبس من النصوص الدينية ما يحرمني من المشاركة، فقط لأنني امرأة.
لم أصل في النهاية إلى لجنة الخمسين، وعندما وقع الاختيار في النهاية على الروائي النوبي البارز حجاج أدول، الذي شرفت بالعمل في مكتبه الاستشاري.
كان هذه التجربة لي بمثابة الضوء الذي فتح عيني على الكثير من ديناميكيات العمل السياسي النوبي. رأيت كيف يحارب الجيل القديم للحفاظ على مناصبه ومكاسبه، وكيف يحاول جيل الشباب الفوز بمعارك جديدة.
أراني عملي في المكتب الاستشاري تعقيد المسألة النوبية. اندهشت من مثابرة النوبيين الشباب الذين لا يتحدثون لغتهم الأم لكنهم مهتمين بما يكفي للمطالبة بتدريس اللغة النوبية والحفاظ عليها وعلى التاريخ النوبي كجزء من التراث المصري.
كنت أظن بسذاجة أن مطلب العودة إلى الأرض القديمة مطلب دوغماتي. كان النوبيون قد تم تهجيرهم قسرًا أربع مرات في القرن العشرين: في ١٩٠٢، و١٩١٢ و١٩٣٢ و١٩٦٤. فقدنا النوبة التاريخية تحت ما تسمى الآن بحيرة ناصر، بعد بناء السد العالي. تعلمت أنه عندما يتحدث النوبيون عن حق العودة، فإنهم يقصدون الحق في الإقامة في الأرض المحيطة بالبحيرة و تنميتها، وهو مطلب واقعي وغير دوغماتي على الإطلاق.
وكمثل كل مصاعب العودة التالية للتهجير، كنت دائمًا أتسائل إذا كنا فعلا نستطيع تحقيق ذلك، إذا كنا سنختار العودة حقاً إذا مُنحنا الخيار، إذا كانت الحياة هناك ستكون كريمة لأبنائنا وبناتنا أم لا. لكنني فوجئت وتراجعت عندما استمعت للأصوات المخلصة لهؤلاء الذين يتطلعون لتنمية أرض أجدادهم، ولكتابة تاريخهم الخاص. هؤلاء الذين يتطلعون للحفاظ على ثقافتهم وتراثهم الجغرافي.
أدركت أن هناك محاولات جادة لتنمية الأرض قرب البحيرة، منها محاولات واعدة للغاية. عرفت أيضًا أنه بالرغم من تشاركنا نحن النوبيين في وجع واحد ومعركة واحدة، إلا أن لدينا أولويات مختلفة، يعتمد اختلافها على حسب توقيت التهجير والمكان الذي هجر إليه وعوامل أخرى.
مازلت أتذكر يوم الجلسة الأولى للجنة الدستور التي تناولت فيه القضية النوبية. يجب أن أقول أنني لم أحب طريقة حديث بعض النوبيين الكبار عند مخاطبتهم لرئيس الجلسة سامح عاشور. شعرت أنهم استخدموا لغة خانعة؛ ظلوا يقدمون الشكر لرئيس اللجنة لمنحه النوبيين فرصة الحديث، كأنه ليس من حقنا.
خاب أملي كثيرًا أيضًا أن ستة فقط من إجمالي ٥٠ عضوًا في اللجنة هم الذين حضروا جلسة الاستماع بشأن القضية النوبية بقيادة حجاج أدول. كان مؤشرًا حزينًا على قدر الاهتمام الضئيل الذي أولته اللجنة للقضية.
في جلسة الاستماع نفسها، كرهت موقف عاشور أثناء رئاسته الجلسة، فقد كان نادرًا ما يعطي الفرصة للنوبيين الشباب للحديث، وحتى عندما يحدث ذلك، كان يقاطعهم بأسئلة مشتتة تظهر جهله بالمشكلة النوبية. وفي أحد المرات قال بصراحة غير مكترثة بمشاعرنا “لماذا تطالبون بحق العودة؟ هل هناك أرض تعودون إليها؟ كنت أعتقد أنها غرقت بالكامل تحت البحيرة”. أظهرت أسئلته المشتتة عدم إلمامه بقضيتنا على الإطلاق. لا أحد يريد العودة إلى الأرض الغارقة تحت البحيرة: “يريد النوبيون تنمية الأرض المحيطة بها” تلك كانت الجملة التي كررناها مرة بعد مرة خلال الجلسة.
ليس هناك دوافع رومانسية في سياسات المجتمع النوبي. فهناك معركة مفتوحة بين الجيل القديم وجيل الشباب، وبين النخبة الجديدة للمجتمع النوبي والنخبة القديمة. تتكون نخبة عهد مبارك من النوبيين من رجال الأعمال وهؤلاء المسمون بالقادة العرفيين للمجتمع النوبي، الذين كانوا يبرمون العديد من الصفقات مع الدولة على مدار السنين، والتي كانت تتحرك ضد مصالح النوبيين. أما النخبة الجديدة فتحاول بناء شرعيتها من داخل المجتمع النوبي، والحفاظ في الوقت نفسه على علاقات جيدة مع الدولة. جميعهم يدعي بأنهم يقومون بما هو الأفضل لصالح النوبيين.
عندما شاركت في صياغة مطالبنا في الدستور، لم أكن أتصور قبول بعض مطالبنا، لكن سواء كنا كسبنا أم خسرنا، كنا سنطالب بحقوقنا كاملة. طالبنا بالاعتراف أن مصر تنتمي إلى القارة الأم، أفريقيا، وبالاعتراف بالنوبية لغة محلية وبالاعتراف بالثقافة النوبية جزءًا من التراث المصري ينبغي الحفاظ عليه. طالبنا بالحق في العودة إلى أرض النوبة (المحيطة بالبحيرة)، كما طالبنا باستشارة النوبيين في عملية اتخاذ القرار لتنمية أراضيهم. وأخيرًا، طالبنا بأن يكون تاريخ النوبة جزءًا من المنهج الدراسي والاعتراف بالتعددية الثقافية لمصر.
كنت غاضبة عندما قرأت بعض من ردود أفعال النخبة الثقافية المصرية، خاصة عندما زعم رموز مثل الشاعر الشهير عبدالرحمن الأبنودي والفنان حمدي أحمد أن الاعتراف بالتراث الثقافي النوبي واللغة النوبية سوف يهدد وحدة الأمة، وهي مغالطة بالطبع.
أشعر بالسعادة لأننا نجحنا في تمرير المادة الدستورية المتعلقة بمكافحة وتجريم التمييز على أساس اللون أو العرق، والتي نصت على تجريم أي تمييز على أساس النوع، أو اللون، أو العرق، أو القدرة، أو الدين أو العقيدة أو الأصل الجغرافي. ويظل نجاحنا في إضافة اللون والعرق إلى التمييز، خاصة ذلك الذي يمارس ضد النوبيين والأفارقة في مصر نجاحًا ملحوظًا.
ومن الانتصارات الأخرى أيضًا المادة الدستورية المتعلقة بتنمية المناطق النائية من مصر كالنوبة وسيناء ومطروح، والتي يجب أن تتم بالتشاور مع سكان هذه المناطق.
لم تكن عملية مطالبتنا بحقوقنا سهلة على الإطلاق. عانينا من اتهامات بتقسيم الأمة، وبأن لنا أجندة انفصالية وممولين من جهات أجنبية. كان محزنًا أننا مضطرون للرد على هذه الهجمات مرة بعد أخرى بالقول إننا نحتفي بتعددية مصر الثقافية وأننا كنا مخلصين لبلدنا على مدار التاريخ. كان الرد على تلك الصور النمطية والانحيازات المسبقة مزعجًا واستهلك الكثير من طاقة فريقنا.
لكننا استطعنا أخيرًا تحقيق بعض المكاسب في الدستور (خاصة فيما يتعلق بإدراج اللون والعرق على أسس التمييز، والمشاركة التنموية لسكان المناطق المحرومة ومطالبة الدولة بتنفيذ مشروعات إعادة تسكين السكان النوبيين)، لكن لم يتم الاعتراف بالنوبة في ديباجة الدستور كجزء من النسيج الثقافي المصري.
أعرف أن هذه العبارات الدستورية تحتاج إلى إرادة سياسية لتتحول إلى مكاسب لمجتمع النوبيين، أعرف أن العنصرية متغلغلة بعمق في المجتمع المصري ويتطلب محوها أكثر من مجرد كلمات. أعرف أن هذه ليست نهاية معركتنا، ولا هي النصر الأخير الأكبر لحقوق الأقلية، لكننا حققنا سابقة قانونية وجرؤنا على الإفصاح والحديث عن حق العودة، وهو ما لم يحدث من قبل.
وبالرغم من ذلك كله، مازلت مترددة في قبول المسودة الأخيرة من الدستور. لا أستطيع تجاوز وجود مواد تسمح بمحاكمة المدنيين عسكريًا، كما أنني لا أستطيع قبول أن حقوق المرأة وتصرفاتها مازالت أسيرة بعبارات مثل “دون التعارض مع الشريعة”. لا أستطيع تجاهل حقيقة أن حقوق الأقليات الدينية، خاصة البهائيين، غير موجودة، كما أنني قلقة من المواد التي تمنح الأزهر، كمؤسسة دينية، سلطة التدخل في المجال العام.
ربما تكون هذه المسودة من الدستور هي أفضل ما استطعنا الوصول إليه، خاصة فيما يخص المجتمع النوبي، لكنها لا تزال غير مطابقة لأحلام جيلي.
توضيح: هذا المقال يعبر عن آرائي الشخصية ولا يمثل أي جهة أعمل معها
المصدر : مدي مصر