في المنطقة الجنوبية القصوى من مصر، تقع مدينة أسوان، تلك المدينة التي تضرب أسرارها في عمق التاريخ حيث شهدت العديد من الحضارات المتعاقبة سواء كانت الحضارة الفرعونية أو ما قبلها، أي منذ فجر التاريخ.
ولهذا الثراء التاريخي فإن أنظار العالم كثيرا ما تتجه إليها قديما وحديثا، ففي القديم كان ينظر إلى أهميتها لكونها سكنا للنوبيين وبلدة لهم في ما قبل عصر الأسرات المصرية القديمة.
وحديثا أصبح ينظر على أنها محصلة لهذا التاريخ وتلك الحضارة الممتدة في عمق التاريخ للدرجة التي جعلت منظمة اليونسكو الدولية تختارها لتكون مدينة الفن الشعبي في العالم اجمع.
هذا الاختيار لم يكن وليد المصادفة بل كان محصلة لاهتمامات عديدة في الماضي والحاضر إلى أن وقع الاختيار لتدخل التاريخ من جديد كما كانت من قبل خلال الحقب التاريخية الطويلة.
والواقع فإن الفن النوبي كان بالأساس هو المعيار الذي جاء اختيار اليونسكو على تلك المدينة الجنوبية لتكون الأولى في الفن الشعبي بالعالم كله، فالنوبيون بالرغم من تعرضهم للكثير من المؤثرات الأجنبية التي كانت تستهدف تغيير أنماط حياتهم، إلا أنهم حرصوا مع كل محاولة في الثبات على تراثهم إلى أن استقروا على ما هم عليه الآن.
وللنوبيين عاداتهم وتقاليدهم في الفن الشعبي حتى إن المشاهد لهم يستطيع تمييزهم بسهولة تامة، وهو ذلك الفن المختلف بالدرجة الأولى عن الفنون الشعبية التقليدية التي تتسم بها حياة البداوة والقرى.
آثار النوبة: وتضم النوبة عشرات المواقع الأثرية وفيها صور للنوبيين في كثير من النقوش البارزة والرسوم الخاصة بالمقابر، وفيها نحو 24 معبدا إضافة إلى بعض الحصون والمقابر التي كانت مهددة بمياه السد العالي، ومن بينها “دندرة، الليسة، عمدا ووادي السبوع، أبو سمبل، معبد كلابشة، معبد فيلة”، وتم نقل معظم هذه المعابد من أماكنها بعد بناء السد العالي وأشهرها معابد “كلابشة وأبي سمبل وفيلة”.
وينقسم النوبيون إلى خمس مجموعات أو قبائل تتوزع جغرافيا من الجنوب إلى الشمال على النحو التالي: “الدناقة، المحس، السكوت، الفارجا، الكنوز”.
وتمتد المنطقة الأخيرة “الكنوز” من أسوان جنوبا حتى الكيلو 145 عند بلدة المضيق، وتضم نحو 17 قرية ونجعا، و”الكنوز” لهم لهجتهم الخاصة وهي الماتوك أو الماتوكية.
أما “الفارجا” فهي نسبة إلى لهجتهم، فتمتد منطقتهم من الكيلو 183 جنوبا على الحدود السودانية، وتضم 19 قرية، وترجح بعض المصادر أن كلمة النوبة من أصل الكلمة “نب” بمعنى الذهب، ولا يخفى أن مناجم الذهب كانت موجودة بكثرة في بلاد النوبة التي يشاهد الزائر ملامح وعادات وطبائع أهلها، بدءا من دخوله مدينة أسوان حيث ينتشر النوبيون في أرجاء وعموم هذه المدينة الواقعة في أقصى مصر العليا.
تاريخ طويل: بلاد النوبة تعرضت للعديد من الخلافات بين قبائلها، ففي أواخر الدولة القديمة لوحظ وجود خلافات بين بعض قبائل النوبة، ولعدم وجود حكومة مركزية لتهدئة هذه القبائل في عهد الانتقال الأول، من بعد الأسرة السادسة حتى قيام الأسرة الحادية عشرة، صارت الأحوال مهيأة لحدوث هجرة من النوبة.
هذه الهجرة تسببت في دخول سكان النوبة إلى الأقاليم المختلفة كمجموعات جديدة استقرت في البلاد في عهد الانتقال الأول، وتمكنت هذه المجموعات بعد دخولها من التوغل في مصر نفسها، إلى أن أوقف ملوك الأسرة الحادية عشرة توغل هذه المجموعات نحو الشمال.
وكان عهد الانتقال الأول (2280 2052 ق.م) فترة صراع في مصر القديمة، تألفت فيها بيوت حاكمة عدة حتى انتهى الصراع بين أهناسيا وطيبة التي انتصرت في آخر الأمر وتمكن “أمنحتب الثاني” من إعادة توحيد مصر ومن ثم بدأ الاهتمام مرة أخرى بالجنوب وإعادة النفوذ المصري.
ووجدت نصوص الأسرة الحادية عشرة منتشرة في أبو سمبل، مما يدل على أن الأحوال بدأت مجراها الطبيعي، وعاد الأمن والأمان إلى ربوع النوبة، وتحديدا في عهد “سنوسرت الثاني” وكثر تردد المصريين على محاجرها ثم اضطر “سنوسرت الثالث” إلى إعادة الحملات مرة أخرى بسبب هجمات قبائل “كوشن” في الجنوب.
هذه الهجمات قطعت طرق المواصلات ومعها كثرت الإغارات على النوبة السفلى، مما اثر في المصالح السياسية والاقتصادية لمصر في الجنوب، ووقتها تقدم “سنوسرت الثالث” إلى سمنة، ودفع قائد كوشن جنوبا، وأقام هناك لوحته المشهورة التي حذر فيها أي فرد من المرور برا وبحرا للتجارة، إلا إذا كان يحمل رسالة للملك.
وخلال عصر الأسر (الإحدى والعشرين، الثانية والعشرين، الثالثة والعشرين، الرابعة والعشرين) لم تتأثر بلاد النوبة كثيرا بالأحداث التي كانت تجري في الشمال، فقد كانت “كوشن” بمناجمها من الذهب ملكا لآمون، وكان كهنة “آمون” في طيبة يحكمون الجنوب حكما يكاد يكون مباشرا مستقلا عن الشمال.
وكانت النوبة من بين هذه الأقاليم، ولما آل حكم مصر للبطالمة واستقروا فيها بدأوا يتجهون نحو الجنوب ليستعيدوا بلاد النوبة السفلى، وتمكنوا من إعادة جزء كبير من هذه الأقاليم إلى مصر.
وفي عهد الرومان، صار هذا الإقليم خاضعا للحكم الروماني، وخلال القرون الأولى للعهد المسيحي، كانت تسكن معظم بلاد النوبة قبائل “توباتي” وأخذت المسيحية تنتشر في بلاد النوبة تدريجيا، فأقيمت الأديرة، وتحول كثير من المعابد إلى كنائس، كمعبد وادي السبوع ومعبد أبي عودة.
ولما دخل العرب المسلمون الإقليم المصري توغلوا في النوبة السفلى، حيث اعتنق النوبيون الإسلام، ولم تلبث الثقافة العربية تنتشر في بلاد النوبة حتى انتشر الإسلام في أسوان منذ بدء ظهوره، فقد عثر فيها على شاهد قبر يرجع إلى سنة 31 هجرية.
كما عثر على شواهد قبور أخرى مكتوب عليها “الاسم” ثم تجيء بعد ذلك كلمة “الأنصاري” بما يؤكد أن بلاد النوبة سكنها أقوام من العرب من القرن الأول الهجري ممن عاصروا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم.
وفي العهد الإخشيدي سنة 344 هجرية أغار ملك النوبة على أسوان فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن بجنوده برا وبحرا وهزمه وأسر كثيرا من النوبيين، وسار جنوبا حتى وصل “ابريم” وفتحها، وكانت أسوان حتى نهاية العصر الفاطمي خاضعة خضوعا تاما للدولة.
وكانت فيها دائما قوات من الجيش لحمايتها فلما زالت الدولة الفاطمية تم إهمال أمرها مما شجع ملك النوبة على الاستيلاء عليها، وفي سنة 790 هجرية استطاع “بنو الكنز” أن يستردوا أسوان من ملك النوبة.
ومع ذلك احتفظوا بها لأنفسهم، فكانت بينهم وبين ولاة أسوان من قبل دولة المماليك حروب عدة، حتى كانت محنة سنة 806 هجرية عندما انخفض منسوب مياه النيل وحدثت مجاعة، وتخلت الدولة عن أسوان واستمرت الحال على ذلك بضع سنين حتى زحف أهل هوارة على بني الكنز سنة 815 هجرية، وهزموهم وفي نهاية القرن التاسع الهجري استعادت النوبة مكانتها التجارية.
عادات وتقاليد: هذا التاريخ الطويل والممتد عبر العصور أسهم في تأهيل مدينة أسوان لتكون المدينة الأولى في الفن الشعبي القديم من دول العالم التي تقدمت مدنها إلى منظمة اليونسكو لنيل هذا الشرف الدولي.
وهنا يقول شعبان علي -مدير فرقة أسوان للفنون الشعبية-: إن الملف الأسواني في المنظمة الدولية كان متخما بالأحداث التاريخية، للحصول على هذه المرتبة الرفيعة، أمام مدن أخرى عدة كانت تنافس أسوان على هذا الملف، إلى أن فرض الملف الأسواني، نتيجة للتراث النوبي الذي تتمتع به المدينة الجنوبية في مصر، نفسه على هذه المرتبة وفاز بالدرجة الأولى وهو ما يشكل تواصلا عالميا مع هذا الفن الرفيع.
ويضيف: ان دول العالم تعرف الفن النوبي بل وتطلبه خصيصا بالاسم، ويذكر أن اليابان حرصت على أن تستضيف فرقا فنية بعينها لتقدم على مسارحها الفن النوبي الذي يبرز عادات النوبيين وتقاليدهم على مختلف العصور.